خسارة السيد فاروق حسني وزير الثقافة المصري معركة الانتخابات للفوز برئاسة منظمة 'اليونسكو' امام المرشحة البلغارية ايرينا بوكوفا تأكيد اضافي على تراجع مكانة الانظمة العربية، والنظام المصري على وجه الخصوص، على الساحة الدولية، وانعدام الاحترام لهم في المجالات كافة، وليس الثقافية منها على وجه الخصوص.
فهذه هي المرة الثانية التي يخسر فيها مرشح عربي لرئاسة اليونسكو في اقل من اربعة اعوام. فالدكتور غازي القصيبي الوزير والمثقف السعودي مني بهزيمة ثقيلة، رغم الجهود الكبيرة التي بذلت من اجل انجاحه.
والعيب ليس بالمرشحين العربيين، فهما على درجة عالية من الكفاءة والمقدرة، وانما في الانظمة التي زجت بهما في هذه المعركة الخاسرة، فهي انظمة تفتقر الى الحد الأدنى من الديمقراطية والحريات العامة، وينخرها الفساد، وتطبق سياسات تعادي الثقافة والابداع، وتفرض رقابة متخلفة تنتمي الى العصور الوسطى، وتعادي التطور والانفتاح على الثقافات الحديثة والمتقدمة.
ومن المفارقة ان من خاض معركة انتخابات اليونسكو، اي الدكتور القصيبي والسيد حسني، يمثلان اكبر دولتين عربيتين، من حيث عدد السكان (مصر) او الثروة المالية والاقتصادية (السعودية)، ويتقلدان مناصب وزارية فيهما. والاهم من ذلك كله انهما، اي النظامين المصري والسعودي، يمثلان الركيزتين الاساسيتين للمشروع الامريكي والغربي في منطقة الشرق الاوسط، وتقدمان خدمات جليلة له.
فبدلا من ان تدعم الولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية الاخرى هذين المرشحين، مكافأة لدولتيهما على خدماتهما الجليلة التي سهلت احتلال العراق واطاحة نظام طالبان في افغانستان، تحت شعار ما يسمى بالحرب على الارهاب، فعلت عكس ذلك تماما، وحشدت معظم الاصوات الاوروبية والعالمثالثية من اجل اسقاط المرشحين العربيين، وبطريقة استفزازية مهينة.
' ' '
نعترف بأننا كنا في حيرة من امرنا ونحن نتابع معركة الانتخابات هذه، وينتابنا شعور مختلط بل ومرتبك، فللسيد فاروق حسني تاريخ مشرّف في مقاومة التطبيع الثقافي مع اسرائيل، ونصرة القضية الفلسطينية العادلة، وانتقاد الاحتلال والمجازر الاسرائيلية في حق ابناء الشعب الفلسطيني، ويكفي انه لم يزر تل ابيب مطلقا، رغم الضغوط الكبيرة التي مورست عليه في هذا الصدد، ولكن الرجل، ونقولها بكل اسف، تراجع عن كل هذه المواقف المشرفة، واعــتذر عنها بطريقة مهينة، على أمل ان يفوز بهذا المنصب الاممي.
لم يخطر في بالنا مطلقا ان يأتي اليوم الذي نرى فيه رئيس مصر العظيمة، صاحبة الارث الحضاري الذي يمتد لاكثر من سبعة آلاف عام، يرجو بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة غاصبة، ارهابية، مدانة بارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية، واقيمت على حساب شعب عربي مسلم، ولا يزيد عمرها عن ستين عاما، لوضع ثقلها خلف المرشح المصري، والمساعدة على انجاحه في هذا المنصب.
فهل يستحق هذا المنصب هذه الانحناءة من هذا المارد العملاق امام القزم الاسرائيلي، لنكتشف بعد ذلك ان اللوبي الاسرائيلي المدعوم امريكياً هو الذي لعب الدور الاكبر لاسقاط السيد حسني وتشويه صورته واتهامه بمعاداة السامية؟
الوطن العربي يملك مخزوناً ضخماً من الشخصيات الثقافية والعلمية التي تستحق منصب رئاسة اليونسكو، ولكن مشكلتها الاساسية انها محسوبة، على انظمة شمولية فاسدة، باتت تشكل عبئاً على البشرية بأسرها، وليس على العرب والمسلمين.
المنطقة العربية لم تعد تبدع الا في القمع وانتاج التفاهات، فالمسرح غائب او مغيّب، والسينما في حال احتضار، وفن الرواية والقصة القصيرة، وصل الى الدرك الاسفل، منذ رحيل العمالقة من امثال نجيب محفوظ والطيب صالح وتوفيق الحكيم، وغيرهم. نعم هناك استثناءات ولكنها محدودة ولا تليق بأمة يزيد تعدادها عن 350 مليون نسمة.
' ' '
خسارة السيد حسني قد ينطبق عليها المثل العربي 'رب ضارة نافعة'،لأن فوزه كان سيشكل طامة كبرى للمثقفين المصريين الذين يعارضون التطبيع، مثلما يعارضون قمع الحريات بأشكالها كافة.
المثقفون المصريون كانوا سيواجهون ضغوطا أكبر من الدولة، ومن السيد حسني نفسه، في حال فوزه لتسريع عملية التطبيع، وربما شق صفوفهم بايجاد طابور خامس بينهم يتولى هذه المهمة. فالسيد حسني تعهد بالتطبيع في حال فوزه، وزيارة تل ابيب، الامر الذي سيعني انه سيقضي كل فترة رئاسته لليونســـكو. ليثبت انه صديق لاسرائيل، او غير معاد لها وللسامية.
ويظل التعهد الاهم الذي قطعه السيد حسني على نفسه هو الاستقالة من منصبه كوزير للثقافة بعد اثنين وعشرين عاماً من توليه له، ولا نعرف ما اذا كان سيبر بوعده، ويستقيل فعلاً، مما يفسح الميدان لدماء ربما تكون جديدة، اما سيظل في المنصب بسبب عناد النظام، الامر الذي لن ينزل برداً وسلاماً على قلوب معظم المثقفين المصريين الذين يتطلعون الى رحيله عن الساحة الثقافية.
' ' '
معركة اليونسكو هذه ونتائجها تبعث برسالة واضحة للأنظمة العربية وعائلاتها الحاكمة، في الدول الملكية والجمهورية على حد سواء، بأنها لا تنتمي الى العصر الحديث ، وغير مقبولة عالميا، بعد ان تأكد رفضها محليا، فجزر القمع وانتهاك حقوق الانسان ، ومصادرة الحريات لا يمكن ، بل لا يجب ان يكون مرشحوها على قمة الهرم الثقافي في العالم.
ثم علينا ان نسأل عما قدمته لنا اليونسكو كعرب، او ماذا قدم المرشحون العرب الذين تولوا مناصب دولية للأمتين العربية والاسلامية ..صفر مكعب .. تحولوا الى خدم للمشاريع الغربية، واصبحوا غربيين اكثر من الغرب، ولذلك لا أسف على اليونسكو وعلى من خسروا انتخاباتها.
عندما نصبح امة تحترم مواطنيها، وتفتح مجالات الحرية والابداع امامهم، وتنتصر لقضاياها، لن يهم بعد ذلك اذا فزنا برئاسة اليونسكو او الأمم المتحدة، لأن العطاء الحقيقي يبدأ في الوطن، ومنه ينطلق الى العالمية.
مصر لم تخسر بخسارة فاروق حسني، وكذلك الامة العربية. من خسر هو الذي قذف به الى هذه المعركة على امل تحقيق انتصار يعطي مادة احتفالية لاعلام ينفخ في قربة نظام يتقزم، ويمارس كل انواع الخداع والتضليل ضد شعبه.
source Alqods alarabi