Nombre de messages : 28 Localisation : meknes Emploi : prof Date d'inscription : 14/03/2011
Sujet: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Ven 6 Mai - 16:53
قراءة بانورامية في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) للشاعر محمد شنوف إدريس زايدي
على سبيل التمهيد
الشاعر محمد شنوف :ما أروع أن نتلو فيك ومنك تاريخنا في القصيدة التي تتلبس عمق الصفاء الشعوري وأنت الآتي من لغة لم تلهك عن معانقة الموروث البلاغي والثقافي العربيين.... ما أروع أن أقول : أي العوالم تركن فيك ،فأنت القصيدة تمشي، تنثر في الفيافي عبق الأريج...هو الزمن الممتد في ذاكرة الحروف والكلمات وهو الحب المستور بأردية التعبير والإيمان بأن الشعر هو عالمك الأبدي ... هو الكشف عن صراع الذات مع قاموس تسكنه ويسكنك...هو هاجر حين تركب نزق المكان ومزق الزمان ، ويكبر التيه في رصد عجيب الصور استرسالا ليعلن أن البحث عن الغيث لا يتحقق بعيدا عن توحد الذات مع ذاتها في سيمفونية صوفية تتقدم قربانا لتدخل باب الحب الوثني بالدعاء وبالنفي . ويسقط غيث الكلمات فيحيا ميت الحرث فيك، وتمتد الذات في حياة أخرى، بابها البحث عن امرأة سكنت فيزياءك الجرحي ، لتغدو الأنثى عنوان أسطورة الشوق والعشق الأبديين ... إنها القصيدة يا شاعري ، تؤرخ لمسيرة شعرك الذي كلما تفيأت ظلاله قلت إنه محمد شنوف الذي عودنا منذ بدايات النصوص جميل النبض وجزيل العبارة ...وهو ما تحقق في هذا المولود الذي جاء مكتملا في خلقته، يتكلم في مهده بأبهى العبارة وأزهى الصور . ومن هذا المنطلق ، أرى أن أحاور العنوان في مكوناته البنائية والدلالية ،فتعدد الأسماء ،علما ووصفا ، لنتبين علاقة الشاعر بالمرأة وطبيعة حضورها كثقافة تشكل بنية اللغة الشعرية في جل نصوص الديوان، ثم نعرج على التجربة الذاتية للشاعر والمحاصرة بين الحلم والعذاب كما عبر عن ذلك تجربة الرومانسيين... قراءة في العنوان إن عنوان الديوان ( من هاجر يأتي زمزمه) هو عنوان القصيدة الحادية عشرة في الترتيب ، وهو نفسه جزء من بناء القصيدة العمودية على وزن الخبب: والقلب حصيد جفَّ ظما*** من هاجر يأتي زمزمه إن الانتقاء للعنوان المركب تركيبا فعليا تم توزيعه ليكون مكونا أساسا في جسد الديوان ، وهو بذلك يجاري فعل الشراح والنقاد الذين كانوا يختارون للقصائد القديمة عناوين من أحد أبياتها أو رويها ، فنقول قصيدة (قفا نبك) و نقول (سينية أو ميمية الشاعر فلان...). فالشاعر محمد شنوف ، يجعل من بنية العبارة جامعا لعناصر الوجود والكينونة من مكان وزمان وحركة ومادة ، إنه الامتداد بين الإدراك الواعي لاحتراق الذات وبين الانتشاء بترقب الآخر... فنقطة البدء كانت حرف جر (من )وهي لابتداء الغاية عند فقهاء اللغة وتكون (هاجر) شاهدة على المكان باعتباره المنبع الذي يقتضي السيولة والحركة ، وجاء الفعل (يأتي) ليزكي هذه الحركية بما أن فعل (أتى) لازم ويحمل دلالة الاكتفاء ، وهو ما يتناسب مع فاعله(زمزم) الدال على الماء المقدس في الثقافة العربية الإسلامية. والمقدس طاهر محبوب ومرغوب فيه ، خاصة إذا أضيف إلى ضمير يؤكد أهمية مَنْ يعود عليه وهو (هاجر) ..هاجر إذن مقدسة ، وحق المقدس التقديم ، فقدم الشاعر من يمتلك سلطة التحكم في ضخ ماء زمزم أو حبسه ...لذلك تشظت سلطة هاجر وسحرُها لتمتلك أرجاء الديوان (عنوان الديوان- عنوان القصيدة- شطر بيت من القصيدة) ولما كان الفاعل مقدسا تعددت أسماؤه في الديوان ليستوعب إيقاع تجربة الذات لغة وتصويرا... تعدد الأسماء والصفات: تعددت في الديوان الأسماء والأوصاف لامرأة تصدرت واجهة الغلاف هي (هاجر)التي استدعت أسماء وأوصاف عدة ، فهي (ليلى)في قصائد بعناوين (قصيدي) و(مع الشجنات في أرق)و(جئت من حلم جفاني) وهي ( حسنائي و مولاتي ) في قصيدة (لها صدعي)... وقد نسب الشاعر الأوصاف إلى ضمير المتكلم ، فغدت نزعة التملك من خلال الأوصاف دليلا على التمنع والنوى ما دام الوصف سمة موزعة بين الناس والأشياء ، أو بعبارة أخرى هي البديل عما يُعتبر الأصل في الأشياء ذاتها . وكأن الشاعر لا يرى الحقيقة إلا في السمات العرضية . هكذا يفجر قيمة الرغبة في الاختيار المتعدد عبر تنويع الأسماء والصفات في تمرد الذات على نفسها ، مستعينة بخلق معادل لغوي ، هو عباءة البحث الصوفي عن ذات أخرى تحترق لتنصهر في اكتمال القصيدة .المرأة لا مكان لها في التعدد ، بل إنها امرأة منتزعة من التعدد : ليلى عربية ألهبت الشعراء سحر الكلمة وهيلين إغريقية أذكت صراع الملوك و تحولت إلى رمز للجمال. المرأة إذن لها قوة سحرية وسلطة قوية فاتنة ، لكن الشاعر خلق بين جنس المرأة نفسها اختلافا في الحسن مما ولد الصراع بين قيمتين :هاجر الزائرة الفاتنة الولهى المسرعة الريم الغيل ذات الحسن اللامي وهيلين المختالة المدبرة الخجولة : يقول الشاعر في قصيدة (ملكتك الخلد)ص 44 تزور كالفتنة الولهى وفي عجل ***كالريم إذ عبرت غيلا لضرغـــام هيلين لو بُعثت تختال في حلـــل *** لأدبرت خجلا من حسنها اللامي إن الشاعر لم يستحضر هيلين إلا كشاهد على تواجده وحبه من امرأة فاق حسنها كل تصور، بل استحضر المرأة بمفهوم الجمع في قوله : لَوْ كُلُّ مُقطِّعةٍ يدهـــــا **رجمــــا بالكيد تجرِّمُهُ ليؤسس لنفسه مشروعية الإقدام على إيراد كل أنواع التوصيفات ، وتفجير آليات البحث عن العبارات التي تكثف الرغبة في مقاومة فتنة الجمال ، ويفعل ما فعلت امرأة العزيز لما أحضرت السكين للنساء اللواتي لُمْنها في حب يوسف (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (1) . ومناط الاستشهاد هنا ، هو تلك المقارنة بين هيلين وليلى . ليلى امتلكت إذن عالم الشاعر بل هي عالمه ، لذلك اخترقت جدار الديوان لتطفو على الواجهة في شكل لغوي تركيبي ، هدفها التنكر لاسم لا يستوعب حقيقة الأوصاف المثالية في تصور الشاعر . لذلك لجأ إلى اسم (هاجر) كاسم يحمل دلالات سلطة التاريخ والدين في الثقافات المختلفة : (هاجر) هي أم إسماعيل ، وهي الجزاء والأجر، وهي الخروج والسفر ، وهي الهاجرة عند منتصف النهار .. وفي هذا السياق تحضر (هاجر) برمزية أخرى ، فهي التي تنتظر الظبي أن يأتيها بماء زمزم عند شاعرنا سيدي محمد علي الرباوي حين يقول: (هَاجَرُ فِي جَوْفِ الصَّحْرَاءِ وَمَا صَاحَبَهَا ظَبْيٌ يُمْكِنُ أَنْ تَـتَفَجَّرَ زَمْزَمُ بَيْنَ أَنَامِلِهِ الْخَضْرَاءِ وَأَنْتَ عَلَى رِئَتَيْكَ أَزِيزُ النَّارِ تَجُوبُ جَزَائِرَ ذَاتِكَ تَسْتَعْطِفُ دَمْعَكَ أَنْ يَرْسُمَ سَطْرَيْنِ عَلَى خَدَّيْكَ وَلَكِنْ تَعْصِيكَ ﭐلدَّمْعَةُ عِصْيَانَا) وتغدو (هاجر) في السياقين رمزا في الإبداع الشعري المغربي ، مما يجعل من حضوره التناصي شكلا من الإستعمال الواعي المعبر عن الرؤية الخاصة للشاعر. فهي في ديوان الشاعر محمد شنوف المرأة المنبع ومصدر الماء الطاهر الشافي (ماء زمزم لما شرب له)... التجربة الذاتية بين الحلم والعذاب : إن الشاعر يعيش حلمه الخاص ، وهو مصدر العذاب والمعاناة على غرار الشعراء الرومانسيين ، وهذا ما يجعل من بنية الاستشهاد البروميثيوسي حالة تستمر في تجربة الشاعر محمد شنوف ، بحثا عن الكلمة التي تختزل عالمه الوجودي ، فتدخل الذات في مرارة تجريبية لم تقو على الانعتاق من سلطة العشق الجنوني . ولعل تقديم الدكتور محمد عفط للديوان يكشف عن حقيقة الشعر عند الشاعر محمد شنوف حين قال هكذا لم تكن القصيدة هنا مجرد شكوى.أو تعبيرا عن تباريح خاصة. ..بل هي موئل حوار ثري وممتد بين الصور والكلمات ، وبين الذاتي والموضوعي ، وبين الخاص والعام ، وبين الوجداني والإنساني...) فالشاعر مهووس بالبحث عن عالم خاص به ، عالم الذات المنتزع من خارجها ليختفي لصالح الأنين والشكوى على غرار الشعراء الرومانسيين الحالمين بلحظة الانتشاء المتمنعة ، يقول الشاعر محمد شنوف : جميل اللحظ أنشاني*** ويدعوني لطيراتي فحسنائي إذا حضرت*** كعرف العود آهاتي أنا كالعود أوتار *** وصدعي عند مولاتي إلى أن يقول : كورد يستقى بدمي***متى يأتي غدي الشاتي إن سمة التجربة الرومانسية عند الشاعر ، اتسمت بخصوصية انفلات الذات من سلطة الكلام غير الشعري ، مما جعل الأنا تتحرر في التحول ، وغير خاضعة لسلطة العقل المناوئة لسلطة الكلمة ، يقول محمد بنيس : ( صعوبة تعريف الأنا الرومانسية تعود لتقلباتها ، وللانهائية حالاتها ، وهي بالتالي عصية على الاختزال كما هي عصية على التنميط ، أي منفلتة من الحتمية التجريبية ومن المقولات العقلية التي كانت تسيج الفاعليات الفردية وتخضعها للاستتار والقمع المستمر ....لا ينتبه إليه غير الترقب المتوتر لانفجار لحظة النشوة)(1) إن الشاعر محمد شنوف في انتظار مستمر لآت غير موثوق بمجيئه أو حدوثه ، وهو ما يجعل الحلم بابا لمساءلة اللايقين حين يكون حضور الحسناء غير مؤكد وحلول الشتاء بعيد التصور... وهو ما جعل من فوضى الحواس سمتا لولوج التراسل : فالمرأة الحسناء يتوزعها الشم (عرف العود) والنظر (ورد) ويبقى للشاعر حاسة اللمس (أوتار العود ) .. فالحواس تتراسل لتخلق عالما خاصا ينصهر في انسجام بين الحسي والمجرد ، حيث يصوغ الشاعر صوره من خلال تجربة الدمج بين الكائن والممكن اعتمادا على الخيال الحالم ،لبناء التجربة الذاتية التي تنزع نحو تفجير اللغة انتقاء معجميا وتركيبيا يكاد يسيطر على قصائد الديوان ، وهو ما يخلق انزياحا بمختلف تشكلاته الدلالية والتركيبية من خلال التقديم والتأخير في بنية الجملة الشعرية ... وختاما لا يسعني في هذه الجولة المختصرة إلا أن أعبر عن قصور القراءة لنصوص الديوان المفعمة بشعرية جميلة لا تستوعبها القراءة العجلى ، وبالأحرى تحديد ماهية الشعر عند شاعر أحب اللغة العربية ، ومن غير الإنصاف كما قاله الشاعر إلياس أبو شبكة ،«أن نحاول بلغة وضعية تحديد لغة المجاز والكناية، لغة الروح، لغة الحسِّ الوجداني العميق».(2) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش (1) سورة يوسف (الآيات 30-31-32) (2) الشعر العربي الحديث ، بنياته وإبدالاتها ج2(الرومانسية)دار توبقال للنشر – البيضاء ط1-1990ص20 (3)مقدمة أفاعي الفردوس، دار الحضارة، بيروت 1962، ص 11
Driss Boudhan Admin
Nombre de messages : 13504 Localisation : Nador Emploi : Professeur Loisirs : Musique,lecture,poésie,photo.... Date d'inscription : 02/02/2008
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Sam 7 Mai - 11:55
MES FÉLICITATIONS À NOTRE CHER POÈTE,MOHAMED CHENNOUF! MA BIENVENUE ET MES REMERCIEMENTS À VOUS,MR ZAÏDI DRISS!
mohamedjaafar poète
Nombre de messages : 373 Localisation : érrachidia/boudnib Emploi : prof Loisirs : lecture Date d'inscription : 30/04/2007
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Sam 7 Mai - 14:51
شكرا للأستاذ الزايدي على هذه القراءة،والشاعر محمد شنوف يستحق بحق كل الاهتمام
zaidi driss
Nombre de messages : 28 Localisation : meknes Emploi : prof Date d'inscription : 14/03/2011
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Dim 15 Mai - 14:11
Driss Boudhan a écrit:
MES FÉLICITATIONS À NOTRE CHER POÈTE,MOHAMED CHENNOUF! MA BIENVENUE ET MES REMERCIEMENTS À VOUS,MR ZAÏDI DRISS!
merci cher driss.. le poème chez le grand chenouf mérite un temoignage vrai sur l'image de sa grandeur poétique..
zaidi driss
Nombre de messages : 28 Localisation : meknes Emploi : prof Date d'inscription : 14/03/2011
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Dim 15 Mai - 14:19
mohamedjaafar a écrit:
شكرا للأستاذ الزايدي على هذه القراءة،والشاعر محمد شنوف يستحق بحق كل الاهتمام
شكرا لك الشاعر محمد جعفر الشاعر شنوف يستحق أن ينتبه إليه شعرا في زمن ليس للشعر فيه عشق. والعشق سؤال عن جمال الشعر وجودته.
لك ودي والتقدير
chennOufmed Admin
Nombre de messages : 6208 Localisation : Meknes/MOrOccO Emploi : PrOf Loisirs : reading... Date d'inscription : 08/01/2007
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Dim 16 Oct - 18:01
شكرا لك أخي الشاعر ادريس الزايدي غلى هده القراءة النقدية الجامعة و المستفيضة أعجبت كثيرا بدقتك و رقتك
chennOufmed Admin
Nombre de messages : 6208 Localisation : Meknes/MOrOccO Emploi : PrOf Loisirs : reading... Date d'inscription : 08/01/2007
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Dim 16 Oct - 18:03
Driss Boudhan a écrit:
MES FÉLICITATIONS À NOTRE CHER POÈTE,MOHAMED CHENNOUF! MA BIENVENUE ET MES REMERCIEMENTS À VOUS,MR ZAÏDI DRISS!
merci bien tres cher ami et poete Driss boudhan.
chennOufmed Admin
Nombre de messages : 6208 Localisation : Meknes/MOrOccO Emploi : PrOf Loisirs : reading... Date d'inscription : 08/01/2007
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Dim 16 Oct - 18:05
mohamedjaafar a écrit:
شكرا للأستاذ الزايدي على هذه القراءة،والشاعر محمد شنوف يستحق بحق كل الاهتمام
شكرا كثيرا اخي الشاعر محمد جعفر على رقتك المعهودة و هنيئا لك كدلك على اصدارك الشعري الجديد
chennOufmed Admin
Nombre de messages : 6208 Localisation : Meknes/MOrOccO Emploi : PrOf Loisirs : reading... Date d'inscription : 08/01/2007
Sujet: Re: قراءات في ديوان (من هاجر يأتي زمزمه) Jeu 23 Fév - 17:00
المقدس وظلاله بين السجلات اللغوية والتناص في ديوان من هاجر يأتي زمزمه للشاعر محمد شنوف بقلم الزهرة براهيم في حديثه عن المحاكاة، اعتبر أرسطو أن الشعر مخايلة باللغة، معنى هذا أن لغز التحول في لعبة الكتابة، من لغة عادية إلى لغة فنية، ينبني بها وعبرها القول الشعري، جهد يقع على عاتق خيال المبدع، إليه توكل مهمة انتقاء مفرداته كما سياقات نظمها وتشكيل صورها حتى يكتمل تشييد عالم القصيدة بكل ما يحتدم داخله من مظهرات ومضمرات لغوية وتعبيرية لا تخون، افتراضا، مهمة تبليغ محمول ثقافي يراوح وجوده الجمالي وقيمته المعرفية بين عدة المتلقي العلمية لتأويل النص الشعري وبين الخلفية الثقافية للمبدع. سمعت قصائد الديوان حتى قبل أن تطبع وتنشر، فكانت ، كلما سمعتها تأسرني، ليس بطريقة إلقائها المتميزة، بل أيضا بسحر ما كان لي أن أتبين شفراته لو لم أحظ بها يوما مأسورة بين دفتي كتاب لأتعقب أسرار هذه الغيبوبة التي يدخلنا فيها الشاعر محمد شنوف كلم جلسنا أمامه مشدودين طوعا إلى روعة ما يقرأ. هذه المرة، قبل العبور إلى مدار القصيد، توقفت مليا أنصت إلى ما تقوله مقدمة الديوان بكل ما يتطلب طقس الوقوف من أدبيات التأمل في مكنوناتها لاسترفاد أفكار وآراء تكون معينا للتسرب أكثر وأعمق في مسارب النصوص والصور والخلفيات. يقول الدكتور محمد عفط، صاحب مقدمة الديوان: «ولقد جاءت قصائد الديوان مخترقة صفاء الموضوع، لتشكل كل قصيدة ملتقى علامات ورموز مختلفة الأصول ومتشعبة الامتدادات. وبذلك، كانت القصائد تشخيصا لحوار متعدد الحلقات وشاسع الآفاق، مع حرص شديد على الاحتفاظ للشعر بكل ألقه وجماله لغة وتصويرا وصوتا وموسيقى. وفي كل هذا يبدو واضحا استحضار متلق متباين الذائقة ومتعدد الحساسية مما جعل القصيدة نصا مفتوحا على احتمالات رؤيوية وجمالية لا تنتهي دون أن يكون ذلك متناقضا مع السمو بالقول الشعري إلى ما يليق به من مقام التقدير والتبجيل.» وانطلاقا من هذا القول، افترض نفسي متلقية استمالها ألق اللغة فسعت نحو مساءلة منابع الإشراق فيها التي ما تكاد تبهرك بتدفقها في قصيدة حتى تسلمك مشدوها إلى شعاع قصيدة غيرها. أقرأ وأعيد القراءة منصتة إلى وسامة النبرات والصيغ والألفاظ والأنساق، وأتهيب من التصريح بأن روعة القول الشعري عند محمد شنوف تكمن في هذا العنصر أو ذاك دون سواه مهابة من حيف أوقعه لبسا تحت غواية الأثر. لا مناص في هذا الموقف من البحث عن مرجعية تسند توازن النظر في الديوان، وعدت إلى مفاتيح القراءة الشعرية الأصل للقصيد العربي وهما فصاحة القول وبلاغته. فإذا كانت الفصاحة في اللغة العربية صفةً تقع للكلمة وللمتكلم وللكلام، والبلاغة تأتي،فقط، صفة للمتكلم وللكلام دون الكلمة، فإن الكلمة الفصيحة تعني سلامتها من أربعة عيوب: 1-تنافر الحروف، 2-غرابة الاستعمال، 3-مخافة القياس، 4-الكراهة في السمع. كما أن فصاحة الكلام تعني خلوه من ستة عيوب: 1-تنافر الكلمات مجتمعة، 2-ضعف التأليف، 3-التعقيد اللفظي، 4-التعقيد المعنوي، 5-كثرة التكرار، 6-تتابع الإضافات. وحين نتحرى، بكثير من الإمعان، الكلمة والكلام في ديوان "من هاجر يأتي زمزمه" يبدو جليا أن محمد شنوف متكلم فصيح بلا مراء. وحين نتحول صوب المطلب البلاغي في قوله الشعري. فكلام شاعرنا بليغ وفق تعريف بلغاء العربية من حيث مطابقته لما يقتضيه حال الخطاب مع فصاحة ألفاظه "مفردها ومركبها". فحال الخطاب هو ما يسمى بـ "المقام" أي الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد عبارة على صورة مخصوصة. والمقتضى، ويسمى "الاعتبار المناسب"، هو الصورة المخصوصة التي تورَد عليها العبارة. وليست البلاغة إذا منحصرة في إيجاد معان جليلة ولا في اختيار ألفاظ واضحة، بل هي تتناول مع هذين الأمرين أمرا ثالثا هو إيجاد أساليب مناسبة للتأليف بين تلك المعاني والألفاظ مما يكسبها قوة وجمالا. أما عن بلاغة المتكلم، فهي ملكة في النفس يقتدر بها صاحبها على تأليف كلام بليغ مطابق لمقتضى الحال مع فصاحته في أي معنى قصده. وتلك غاية، كما قال القدماء، لن يصل إليها إلا من أحاط بأساليب العرب خُبرا وعرف سنن تخاطبهم في منافراتهم، ومفاخراتهم، ومديحهم، وهجائهم، وشكرهم، واعتذارهم، وبالنسبة إلى شاعرنا، على وجه الخصوص، في غزلهم ونسيبهم، وهكذا، يلبس المتكلم لكل حال لبوسها ولكل مقام مقال. ليس أصدقُ تحققا لفصاحة اللغة العربية وبلاغتها من لغة القرآن، تصويرا ونظما، فهما وجهان لعملة واحدة بل لغاية واحدة هي الإبانة عن المعنى والإظهار له، كما يقول أبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتين"، فكلاهما ترجعان إلى أصل واحد حتى أن الرازي في نهاية "الإيجاز" قال: "وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين الفصاحة والبلاغة". وقال الجوهري في كتاب "الصحاح": "الفصاحة هي البلاغة". من هذه العتبة المباركة، يلج محمد شنوف كون القصيدة سابحا طلقا فنَطْفَقُ، كقراء مريدين، جِثِيّا حول محراب عشق هذه اللغة والحلول في طقوس مقدسها الذي يتدفق زمزما بلاغيا تنسكب عذوبته من مقدسي كينونة الإنسان العربي: الشعر والقرآن. تستوقفني السجلات اللغوية وتوزعني على أكثر من مدار ومن عصر ومن مقام ومن شاعر نار على علم. في ديوان" من هاجر يأتي زمزمه" أحرجني محمد شنوف وأنا المتلقية المغمورة في حضرة شعراء عظام منهم الواقف المستوقف، والحكيم الهادئ والهجاء المندفع، والفارس المتأنف والمترفع العاتي، والعزيز المعتذر، والنزوي الآثم، والرقيق المتذلل، والعاشق المتغزل، والرومنسي الشفيف... كم جشمتني من التلعثم والارتباك في حضرة امرئ القيس وزهير والحطيئة وعنترة وقيس ليلى والمتنبي وأبي نواس وأبي فراس، وعبد الغني الحصري القيرواني، وإيليا ونزار... ماذا عساني أقول لهم وقد لهثت عبر هذا الديوان من جاهلية العرب حتى اللحظة؟ "أقول: خطيئتي إنني تجرأت، سذاجة أو جسارة، فورطت نفسي في قراءة ديوان لم يخرج إلى الوجود إلا بعد أن رضع صاحبه بنهم كل أثداء حسان العربية بدوها وحضرها، قديمها وحديثها، مدنسها ومقدسها، فاستوى ونما واستقام فاستهام؟" لا يمكنك بدءا العبور إلى دوائر المعنى دون الحسم في معرفتك بمعجمه المتنازِع بين جزالة اللفظ واستقامته الغالبة على النسيج اللغوي للنصوص، لأن شاعرنا مهووس بالنموذج الشعري القديم لغة وصوغا وإيقاعا، وبين شرف المعنى وصحته. من تم، يصير لزاما على القارئ أن يفك مستغلقات لغة آتية من زمن سابق ما عادت متداولة في القريض راهنا، إلا أنها تعود في هذا الديوان لتثبت، من خلال استعمالات محمد شنوف لها، أن اللغة العربية لا يموت مجموع من مفرداتها إلا إذا نحن أهملناها واتهمناها غيًّا بكونها وحشية أو متجاوزة تحت إقصاءات التواصل اللغوي المعاصر، وهكذا يستعيد كلمات مثل (حدم السيف- الشوايا- وزيم- أوازم- أنضام- شوِل- حلس- يثفي مراجل- تهلمم- رشح قدر- جلمود- نضيض- الشؤبوب- شَموع الطبع- لفّاء- آطام) ليثبت أن الخلل أو الصعوبة لا يكمن في اللغة بقدر ما يقع وزر هجرها على عاتق مستعمليها. وعلى مستوى ثان، يطالعنا معجم لا يأتي من مخزون اللغة العام، وإنما يتدفق عابرا إلينا بعد أن يغتسل في كوثر النص المقدس فيحمل سره وسحره، لا ليتكرر بابتذال، بل ليحمل روحه أو نطفة منه تنسل كينونات شعرية مائزة: ( لا تذر- تدلى قطوفا- فواكه شتى- صدع- سبيلا- زلفى- الجنان- حرور- دان- الأحوى- إنس- جان- هزي بجذع- كؤوس دهاق- سلوى- مثاني- مرجنا- أجاج- الحور عين- شِرْك- تزاور الشمس- النسي- مشكاة- ضبحا- فلك يحملنا- وعد الصبح- الزبى- أسطر- نون- أقلام- لا شريك- الخلد- نجم- يهوي- معارج- قاب قوس- مقطعة يدها- رجما- حسان الخلد- استوقدت نارا- مستطير- شرر...) بهذه الطاقة المعجمية الحيوية تخفق أجنحة المبدع باتجاه عالمه الشعري يصوغ جماليات قوله من محفوظ مقدس، شعري وقرآني، لا تكاد تخلو منه قصيدة. ويتألق القصص القرآني خلفية باذخة تتيح كل إمكانات التجلي لما يعتمل في جواه من نزوات وشجنات وانفعالات ومعاناة، كما ينساب أثر النظم القرآني ليمنح النسج البلاغي روعة الاستعارات وشفيف الكنايات. وهكذا نقرأ في قصيدة "جئت من حلم جفاني" أقبلي هزي بجذعي أطعميني من دناني و في قصيدة "لو أننا نلتقي" تزاور الشمس كي لا الدهر يدركنا ونحن نحرم في حلولنا السامي ثم في قصيدة "من هاجر يأتي زمزمه" لو كل مقطعة يدها رجما بالكيد تجرمه وأيضا في قصيدة "ملكتك الخلد" أنفذتها مهجي نارا وما انقطعت تهذي بها أسطري، نوني وأقلامي نرى كيف تشتغل، على سبيل المثال، قصة مريم وأهل الرقيم ويوسف والقلم، بوصفها نصوص غائبة، في هذه الاستعارات، وكيف يستوحي الشاعر حالات وجده وعذابه من تفاصيلها، وكيف يتفيأ الكلام الإنساني ظلال الكلام الرباني، معنى ولفظا، فيترشفها للكشف والبوح حينا، وللحلول والتسامي حينا آخر، والحاصل أن الصورة الشعرية لا تطفح في ابتذال على صفحة المعنى وإنما تتفتح مكينة من جذور ضاربة في عمق معرفة حصيفة بجوهر القول كما بشكله وموسيقاه. وإذا كان التناص، كما يقول د. جميل حمداوي: «من أهم المفاهيم النقدية التي اهتمت بها الشعرية الغربية وما بعد البنيوية والسيميائيات النصية، لما له من فعالية إجرائية في تفكيك النص وتركيبه، والتغلغل في أعماق النص ولاشعوره الإبداعي»، فإن مغامرة قراءة هذا الديوان لا تكون مضمونة الرغائب ما لم نمتلك سيرورات اشتغال هذا المفهوم بهدف افتحاص جسد القصائد وروحها. يستعيد محمد شنوف مُدركه-يقينه القرآني ليبث عبره ما لا تستطيع لغة البشر البوح به أو توصيله كما ينبغي، حتى أننا نحس نوعا من التماهي بينه وبين ذوات فو- بشرية، يقول:supra-humaine وارتدي وهج الحنايا دثريني في حصان محرم لبيك أهدي صلب جمرات الكيان ما أظن الحور عين منك إلا كالمثاني في التداني منك شرك لو عبدت، كنت ثان ألم يُرفع الشعراء، في الثقافة الإنسانية يوما، إلى درجة الآلهة وأنصاف الآلهة والنبيئين والقديسين والسحرة؟ ثم، ألم تتهم قريش محمدا صلى الله عليه وسلم بكونه ساحرا أو شاعرا أو مجنونا؟ وإن من البيان لسحرا؟ طقوس عشق ليلى في القصيد طقوس مبجلة ترتفع إلى فرائض العقيدة. فهي صلاة ونسك وتهجد وصدع وحلول ومشكاة ووعد جنان وإحرام وتلبية ورمي للجمرات وسعي بين الصفا والمروة... بل أكثر من ذلك، يتحول العاشق إلى إله يملك ليلاه الخلد،والعهدة على من وضع أختامه، يقول: وليتك الروض أنثى لا شريك لها ما ترتجيه غوان خبطُ أوهام ليلاي فيك لذاذات المنى جمعت ملكتك الخلد مرسوما بأختامي وختاما، نخلص إلى أن ديوان محمد شنوف، في قصائده المختزلة وصفحاته المحسوبة، يظل متمنعا بين يدي قارئ لا يكنه ذبذبات الكلمات وأطياف الصور، و لا مناص من معرفة عالمة جادة تكشف مخزون القصيد الذي يظل معدن لألاء غائر في مسارب التأويل، كلما سبرناه بخشوع وإخلاص، كلما غنمنا نفائسه وتلذذنا بسحر مباغتة الاعتراف الشعري في خلواته المقدسة قصد الحلول فيها والفوز ببركتها. وهكذا، كما يقول الدكتور محمد عفط: «وأنت تقرأ القصائد، تحس أن صاحبها لم يكن همه ينحصر في إخراج قول من الجوى إلى الأرجاء، بل يتجاوز ذلك إلى أن يكون هذا القول مثيرا بعمقه إثارته بكلماته. من هنا تنبئ قصائد الديوان عن ذلك الحرص الشديد الذي ظل يلازم الشاعر على التناسب الرفيع بين انتقاء الكلمات وتأليفها الشعري بحيث يكون النص المجلى الصافي لهذا التناسب».